فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{ويا قوم مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} كررَ نداءَهم إيقاظًا لهم عن سنة الغفلة واعتناء بالمنادى له ومبالغة في توبيخهم على ما يقابلون به نصحَهُ. ومدارُ التعجبِ الذي يلوحُ به الاستفهامُ دعوتُهم إيَّاهُ إلى النارِ ودعوته إياهم إلى النجاة كأنه قبل: أخبروني كيف هذه الحال أدعوكم إلى الخير وتدعونني إلى الشرِّ وقد جعلَه بعضُهم من قبيلِ ما لي أراكَ حزينًا أي ما لكَ تكونُ حزينًا. وقولُه تعالَى: {تَدْعُونَنِى لاَكْفُرَ بالله} بدلٌ أو بيانٌ فيه تعليلٌ والدعاءُ كالهدايةِ في التعديةِ بإلى واللامِ {وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِى بِهِ} بشركتِه له تعالى في المعبوديةِ وقيل بربوبيتِه {عِلْمٍ} والمرادُ نفيُ المعلومِ والإشعارُ بأنَّ الألوهيةَ لابد لها من بُرهانٍ موجبٍ للعلمِ بَها.
{وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار} الجامعِ لجميعِ صفاتِ الألوهيةِ من كمالِ القُدرةِ والغَلبةِ وما يتوقفُ عليهِ من العلمِ والإرادةِ والتمكنِ من المجازاةِ والقدرةِ على التعذيبِ والغفرانِ.
{لاَ جَرَمَ} لا ردَّ لما دعَوهُ إليهِ وجرمَ فعلٌ ماضٍ بمعَنْى حَقَّ وفاعلُه قولُه تعالى: {إِنَّ مَا تَدْعُونَنِى إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ في الدنيا وَلاَ في الأخرة} أيْ حق ووجب عدم دعوة آلهتهم إلى عبادتها أصلًا أو عدم دعوة مستجابة أو عدم استجابةِ دعوةٍ لهَا وقيلَ جرمَ بمعنى كسبَ وفاعلُه مستكنٌّ فيهِ أي كسبَ ذلكَ الدعاءُ إليهِ بطلانَ دعوتِه بمعنى ما حصلَ من ذلكَ إلا ظهورُ بطلانِ دعوتِه وقيل: جرمَ فعلٌ من الجَرْمِ وهو القطعُ كما أن بُدًّا من لابد فُعْلٌ من التبديد أي التفريق والمعنى لا قطع لبطلان ألوهية الأصنام أي لا ينقطع في وقت ما فينقلب حقًا ويؤيده قولهم لا جُرْم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء وفُعْلٌ وفَعَلٌ أخوان كرُشْد ورَشَد {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى الله} أي بالموتِ عطفٌ على أنَّ ما تدعونِني داخلٌ في حُكمِه وكذا قولُه تعالى: {وَأَنَّ المسرفين} أي في الضلالِ والطغيانِ كالإشراكِ وسفكِ الدِّماءِ {هُمْ أصحاب النار} أي مُلازمُوهَا {فَسَتَذْكُرُونَ} وقُرئ فَستدكَّرُونَ أي فسيذكِّرُ بعضُكم بعضًا عند معاينةِ العذابِ {مَا أَقُولُ لَكُمْ} من النضائحِ {وَأُفَوّضُ أَمْرِى إِلَى الله} قالَه لما أنَّهم كانُوا توعَّدُوه {إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد} فيحرُسُ مَنْ يلوذُ به من المكارِه {فَوقَاهُ الله سَيّئَاتِ مَا مَكَرُواْ} شدائدَ مكرِهم وما همّوا به من إلحاقِ أنواعِ العذابِ بمن خالفَهم قيلَ نَجا معَ مُوسى عليهِ السَّلامُ {وَحَاقَ بِئَالِ فِرْعَوْنَ} أي بفرعونَ وقومِه، وعدمُ التصريحِ بهِ للاستغناءِ بذكرِهم عنْ ذكرِه ضرورةَ أنَّه أولى منُهم بذلكَ وقيل: بطَلَبةِ المؤمنِ منْ قومِه لما أنَّه فرَّ إلى جبلٍ فاتبعَهُ طائفةٌ ليأخذُوه فوجدُوه يُصلِّي والوحوسُ صفوفٌ حولَهُ فرجعُوا رُعْبًا فقتلَهُم {سُوء العذاب} الغرقُ والقتلُ والنَّارُ.
{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} جملةٌ مستأنفةٌ مَسْوقةٌ لبيانِ كيفيةِ سوءِ العذابِ، أو النَّارُ خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ، كأنَّ قَائِلًا قالَ ما سوءُ العذابِ فقيلَ هُو النَّارُ ويُعرضونَ استئنافٌ للبيانِ، أو بدلٌ من سوءِ العذابِ ويُعرضون حالٌ منَها أو من الآلِ ولا يشترطُ في الحَيْقِ أنْ يكونَ الحائقُ ذلكَ السوءَ بعينِه حَتَّى يردَ أنَّ آلَ فرعونَ لم يهمُّوا بتعذيبِه بالنَّارِ ليكونَ ابتلاؤهم بها من قبيلِ رجوعِ ما هَمُّوا بهِ عليهم بلْ يكِفي في ذلكَ أنْ يكونَ مما يطلقُ عليهِ اسمُ السوءِ. وقُرِئتْ منصوبةً على الاختصاصِ أو بإضمار فعلٍ يفسرُه يُعرَضونَ مثلُ يُصْلَون فإنَّ عرضَهُم على النَّارِ بإحراقِهم بها من قولِهم عُرضَ الأُسَارى على السيفِ إذا قُتِلُوا بهِ وذلكَ لأرواحِهم كما رَوَىَ ابنُ مسعودٍ رضَي الله عنْهُ أنَّ أرواحَهُم في أجوافٍ طيرٍ سُودٍ تُعرضُ على النَّارِ بُكرةً وعشيًا إلى يومِ القيامةِ، وذكرُ الوقتينِ إمَّا للتخصيصِ وإمَّا فيما بينهُمَا فالله تعالَى أعلمُ بحالِهم وإمَّا للتأبيدِ هذا ما دامتِ الدُّنيا.
{وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة} يقالُ للملائكةِ {أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} أي عذابَ جهنَم فإنَّه أشدُّ ممَّا كانُوا فيه، أو أشدّ عذابِ جهنَم، فإنَّ عذابَها ألوانٌ بعضُها أشدُّ من بعضٍ. وقُرئ ادخُلُوا من الدخولِ أي يُقالُ لهم ادخُلُوا يا آلَ فرعونَ أشدَّ العذابِ.
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ في النار} أي واذكُر لقومِكَ وقتَ تخاصُمِهم فيَها {فَيَقُولُ الضعفاء} منهم {لِلَّذِينَ استكبروا} وهُم رؤساؤُهم {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أتباعًا كخَدَمٍ في جمعِ خَادِمٍ، أو ذَوِي تبعٍ أي أتْباعٍ على إضمار المضافِ أو تَبَعًا على الوصفِ بالمصدرِ مبالغةً {فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مّنَ النار} بالدفعِ أو بالحملِ، ونصيبًا منصوبٌ بمضمرٍ يدلُّ عليه مغنونَ أي دافعونَ عنَّا نصيبًا الخ. أو بمغنونَ على تضمينِه مَعْنى الحملِ أي مغنونَ عنَّا حاملينَ نصيبًا إلخ أو نُصبَ على المصدريةِ كشيئًا في قوله تعالى: {لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئًا} فإنَّه في موقعِ غَناءٍ فكذلكَ نصيبًا {قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي نحنُ وأنتُم فكيفَ تُغنِي عنكُم ولو قَدرنا لأغنيَنا عن أنفسِنا. وقُرئ كُلًا على التأكيدِ لاسمِ إنَّ بمَعنى كُلَّنا وتنوينُه عوضٌ عن المضافِ إليهِ ولا مساغَ لجعلِه حالًا من المستكنِّ في الظرفِ فإنَّه لا يعملُ في الحالِ المتقدمةِ كما يعملُ في الظرفِ المتقدمِ فإنَّك تقولُ كلَّ يومٍ لكَ ثوبٌ ولاَ تقولُ جديدًا لك ثوبٌ {إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} وقضَى قضاءً متقنًا لا مردَّ لهُ ولا معقّبَ لحُكمهِ.
{وَقَالَ الذين في النار} من الضعفاءِ والمستكبرينَ جميعًا لمَّا ضاقتْ حيلُهم وعيّتُ بهم عِللُهم {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} أي للقُوَّامِ بتعذيبِ أهلِ النَّارِ، ووضعُ جهنمَ موضعَ الضميرِ للتهويلِ والتفظيعِ أو لبيانِ محلِّهم فيَها بأنْ تكونَ جهنمُ أبعدَ دركاتِ النَّارِ وفيها أَعْتَى الكفرةِ وأطغاهُم أو لكونِ الملائكةِ الموكلينَ بعذابِ أهلِها أقدرَ على الشفاعةِ لمزيدِ قُربهم منَ الله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفّفْ عَنَّا يَوْمًا} أي مقدارَ يومٍ أو في يومٍ ما منَ الأيامِ على أنه ظرفٌ لا معيارُ شيئًا {مّنَ العذاب} واقتصارهُم في الاستدعاءِ على ما ذُكرَ من تخفيفِ قدرٍ يسيرٍ من العذابِ في مقدارِ قصيرٍ من الزمانِ دونَ رفعِه رأسًا أو تخفيفِ قدرٍ كثيرٍ منْهُ في زمانٍ مديدٍ لأنَّ ذلكَ عندهُم مما ليسَ في حيزِ الإمكانِ ولا يكادُ يدخلُ تحتَ أَمانيِّهم {قَالُواْ} أي الخزنةُ {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بالبينات} أيْ ألم تُنبهوا على هَذا ولم تكُ تأتيكُم رسلُكم في الدُّنيا على الاستمرارِ بالحججِ الواضحةِ الدالةِ على سُوءِ مغبةٍ ما كنتُم عليهِ من الكُفرِ والمَعَاصِي، كَما في قولِه تعالى: {أَلَمْ يأْتِكُم رُسل مِنْكُم يَتْلونَ عَلَيْكُم ءايات رَبِكُم وَيُنْذِرُونَكُم لِقَاء يَومِكُم هذا} أرادُوا بذلكَ إلزامَهُم وتوبيخَهُم على إضاعةِ أوقاتِ الدُّعاءِ وتعطيلِ أسبابِ الإجابةِ {قَالُواْ بلى} أي أتَونا بها فكذَّبناهُم كما نطقَ به قولُه تعالَى: {بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شيء إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كَبِيرٍ} والفاءُ في قولِه تعالَى: {قَالُواْ فادعوا} فصحيةٌ كما في قولِ مَنْ قالَ:
فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانا

أيْ إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فادعُوا أنتُم فإنَّ الدعاءَ لمن يفعلُ ذلكَ مما يستحيلُ صدورُه عنَّا وتعليلُ امتناعِهم عنِ الدعاءِ بعدمِ الإذنِ فيه معَ عرائِه عن بيانِ أنَّ سبَبهُ من قبلِهم كَما تُفصحُ عنه الفاءُ رُبَّما يُوهُم أنَّ الإذنَ في حيزِ الإمكانِ وأنَّهم لو أُذنَ لهم فيهِ لفعلُوا ولم يريدُوا بأمرِهم بالدعاءِ إطماعَهُم في الإجابةِ بل إقناطَهم منَها وإظهارَ خيبتهم حسبما صرَّحُوا بهِ في قولِهم: {وَمَا دُعَاء الكافرين إِلاَّ في ضلال} أي ضياعٍ وبُطلانٍ. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23)} التفسير: لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة توبيخ وتذكير لهم. وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها، فلا جرم أوردها هاهنا مع فوائد زائدة على ما في المواضع الأخر منها: ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه. ولأن القصة قد تكررت مرارًا فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام. قوله: {بالحق} أي بالمعجزات الظاهرة. وقوله: {اقتلوا} يريد به إعادة القتل كما مر في الأعراف في قوله: {سنقتل أبناءهم} [الآية: 127] قوله: {إلا في ضلال} أي في ضياع واضمحلال. فإن كان اللام في {الكافرين} للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم وإستيلاء موسى وقومه على ديارهم. قوله: {ذروني أقتل موسى} ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات: الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون. الثاني قال الحسن: إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا: إنه كان محقًا وعجزوا عن جوابه فقتله. الثالث: لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة. قال جار الله: إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالًا سفاكًا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحسن بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال: {إني أخاف أن يبدّل} الآية. ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. قال: وقوله: {وليدع ربّه} شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه. وقال غيره:
هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه. ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في الأعراف في قوله: {ويذرك وآلهتك} [الآية: 127] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء، أراد أن يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعًا، أو أحد الأمرين على القراءتين.
ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله. وفي تصدير الجملة بأن دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات. وفي قوله: {بربي} إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني. وفي قوله: {وربكم} احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره {ألم نربك فينا وليدا} [الشعراء: 18] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي. وفي قوله: {من كل متكبر} أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان: إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية. والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه. وأما وصف المتكبر بقوله: {لا يؤمن بيوم الحساب} فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران: أحدهما قسوة القلب. والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب. ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع. ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون. والأصح أنه كان قبطيًا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرًا واسمه سمعان أبو حبيب أو خربيل. وقيل: كان إسرائيليًا. وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله: {اقتلوا أبناء الذين آمنوا معه} فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول: الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله: {فمن ينصرنا من بأس الله} وقوله: {يا قوم} على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أن يتنصح لقومه. ومعنى {أن يقول} لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكرًا عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله: {ربى الله} والدليل على حقيتها إظهار الخوارق والمعجزات. وفي قوله: {من ربكم} استدراج لهم إلى الاعتراف بالله. ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذبًا أو صادقًا. على الأول يعود وبال كذبه عليه، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب. واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله. وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال: {يصبكم بعض الذي يعدكم} ولم يقل كل الذي؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم، والزمان زمان الفترة والحيرة، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال: إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعًا.
وعن أبي عبيدة: أن البعض هاهنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد:
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها ** أو يرتبط بعض النفوس حمامها

وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا: إنه أراد ببعض النفوس فقط. ثم أكد حقية أمر موسى بقوله: {إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب} وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب. وقيل: إنه كلام مستأنف من الله عز وجل، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره، وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهدًا في سبيل الله بلسانه. ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله: {يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض} أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط {فمن ينصرنا من بأس الله} من يخلصنا من عذابه {إن جاءنا} وذلك لشؤم تكذيب نبيه {قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى} أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله {وما أهديكم} بهذا الرأي {إلا سبيل الرشاد} وصلاح الدين والدنيا، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر. قال جار الله: وقد كذب فقد كان مستشعرًا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد. وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه. قوله: {مثل دأب} قال جار الله صاحب الكشاف: لابد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب. ثم قال: إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح. ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات. قلت: لا بأس من جعله بدلًا كما مرّ. وقوله: {وما الله يريد ظلمًا للعباد} أبلغ من قوله: {وما ربك بظلام للعبيد} [فصلت: 46] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي. وفيه أن تدميرهم كان عدلًا وقسطًا. وقيل: معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين. وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضًا فقال: {ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد} أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب، والأولى أن يكون مفعولًا به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم.